لماذا (بنت الهدى)...؟!
ولعلّ القارئ يسأل عن سبب صدور كتابات الشهيدة السيّدة آمنة الصدر وهي تحمل اسم (بنت الهدى). ولندع الشهيدة تجيب بنفسها عن ذلك حيث تقول تحت
عنوان «من أنت؟» :
«كتبت إليّ أختٌ مسلمةٌ وسألتني قائلةً: لماذا بالله عليك لا تصرّحين عن اسمك الصحيح لنعرف من أنت ومن تكونين؟
فإليك يا أختاه جوابي لعلّك تعرفين منه من أكون أنا؟
فأنا أوّلاً وبالذات أختك المخلصة الدائبة على تتبّع آثارك وتعقّب خطواتك بدافع الحبّ والعطف، وأنا أيضاً متطوّعة مختارة لأجل قضيّة الإسلام وحمل مشعله الوهّاج ما وسعني حمله وعلى قدر طاقتي وإمكانيّاتي في الجهاد، وأنا أيضاً من أريد أن أجعل من نفسي مثلاً ونموذجاً أجري عليه تجارب أدب الإسلام التي قد يظنّ البعض الجاهل أو المتجاهل أنّها تجارب فاشلة، فأنا أريد أن أثبت بنفسي ما يحدّثنا به التاريخ الإسلامي عن أمّهات وأخوات لنا في صدر الإسلام ناهضن بثقافتهنّ أعاظم الرجال مع تمسّكهن بالإسلام وتعاليمه.
ولا يخفى عليك يا أخيّة أنّي لم أكن لأقول هذا وشبهه لو أنّك كنت تعرفين اسمي الصغير التافه، وهذا أحد الدواعي لعدم ذكري لذلك الاسم الذي أكاد أنساه أنا نفسي فلماذا لا تنسينه أنت أيضاً يا عزيزتي؟
فأنا في أكثر أوقاتي أصبحت مندمجة معكنّ ومنصرفةً عن نفسي إليكنّ، ولهذا فأنا في أكثر أوقاتي أكون بين (الهدى) تاركة ورائي تلك الحروف التي لا دخل لها بما أنا في سبيله.
نعم حروفٌ لا تتعدّى الأربعة فما خطرها إذن؟ وما شأنها بالنسبة للغاية التي أبتغيها؟ فلك أن تتصوّريني كما تشائين:
تصوّريني سيّدةً عجوزاً قد اكتمل عمرها وتقدّمت بها السنون، فهي تضع النظّارات على عينيها وتدني النور إليها، أو تدنو هي من النور، ثمّ تمسك القلم وتقرّب نحوها الدواة وتباشر الكتابة إليك، وهي بين حين وآخر تعيد ترتيب أوراقها ثمّ تضع القلم جانباً برهةً لتريح يدها ورأسها، ثمّ تعود مرّة أخرى لتكتب وتستأنف ما قطع عليها التعب.
وأخيراً... عندما تنتهي من الكتابة تستلقي على ظهرها لتستريح وهي تشعر بدوار وإعياء.
ولك أيضاً أن تتصوّريني امرأة قد تخطّت الشباب أو كادت، قليلة الكلام كثيرة الفكر، لا تكتب إلاّ بعد طول تروٍّ وتأمّل، إذا كتبت اقتضبت، وإذا تحدّثت اختصرت، ومن رأيها الخاص أنّ الكتابة لا يمكن أن تجتمع مع أيّ شيء آخر، فهي إذا كتبت تركت كلّ شيء، وإذا كان لديها أيّ شيء تركت الكتابة، وإذا أرادت أن تكتب تنفرد بنفسها في غرفتها الخاصّة فتجمع فوق منضدتها شتّى الكتب لتختار من بينها الموضوع الملائم . فهي حريصةٌ جدّاً على أن لا تكتب إلاّ في مكانها الخاص، وفي جوٍّ ملائم هادئ، وهي حريصةٌ أيضاً أن يدلّ مظهرها على شخصيّتها وأن يرسم في خطوط جبينها وحركاتها خطوط أفكارها وميولها.
ولك أيضاً أن تتصوّريني فتاةً شابّة في ريعان الشباب ضاحكة الثغر، طلقة المحيّا، تندمج في كلّ موضوع، ولا يفوتها شيءٌ ممّا حولها، ترضي كلّ جليس، إذا كتبت تكتب بسرعة وبدون أيّ مقدّمة، وإذا تكلّمت تتكلّم بهدوء وتحسب لكلّ كلمة حسابها، ليس عندها أيّ مكان خاص بها تستنزل فيه الإلهام، أينما خطرت لها خاطرة أو عنت لها فكرة سجّلتها على ورقة أو أيّ شيء آخر حتّى ولو كان علبة سيجارة، وهي حريصة على أن لا يتأثّر مظهرها بأفكارها وميولها وأن لا تكتب أفكارها على قسماتها وحركاتها، ولهذا فهي بين ذلك كلّه فتاة كباقي الفتيات لا تتميّز عنهنّ بشيء إلاّ بقوّة الإرادة وسموّ الروح، وهي تستطيع أن تتحمّل كلّ شيء، وأن تجاري كلّ أحد سوى جهل الجاهلات بأحكام الإسلام، ولكنّها مع هذا لا تكاد تعرف أنّها هي تلك الغيورة الصارمة في تعاليم دينها، فإنّ لها طريقتها الخاصّة باتّباع هذه التعاليم لا يتأثّر منها مظهرها، تصوّري هكذا إذا شئت.
وتصوّريني إذ أكتب إليك أفترش الأرض والحصير وأجعل من رجلي منضدة أريح فوقها أوراقي المبعثرة لأملي عليها أفكاري!
نعم تصوّريني هكذا، وإذا شئت فتصوّريني شابّةً تشعر بشعورك وتمرّ بالمرحلة التي تمرّين بها وتنظر إلى كلّ ما تنظرين إليه، ولكن من وراء منظار الواقع والحقيقة، لا تغشّها المظاهر الخلاّبة ولا تغريها كلّ أساليب الإغراء.
تصوّريني هكذا إذا شئت، بل تصوّري أيّة صورة من هذه الصور حيث تجديها أقرب إلى فكرك فاختاري منها إحداها، أو اختاري غيرها، وكوني مثلي، فأنا لا أنظر إلى الإنسان تحت إطار اسمه أو مظهره أو ملبسه، وإنّما أنظر إلى روحه وقلبه وأفكاره، وتذكّري دائماً وقبل كلّ شيء أنّي أخت لك متواضعة وقريبة منك كثيراً وأكثر ممّا تتصوّرين، لأنّ القرب قرب للروح والفكر والرأي:
قد يجمع الرأي أشخاصاً وإن بعدوا * وقد يفرّق خلف الرأي إخواناً وأخيراً فرجائي إليك أن تنسي تلك الحروف القليلة، واذكريني أنا بشخصي الروحي لأكون فخورة بذلك، وثقي أن ليس لاسمي أيُّ دخل فيما أكتب وفيما تقرئين، ودومي للمخلصة لك إلى الأبد. النجف الأشرف، بنت الهدى».
لماذا (بنت الهدى)...؟!
4/
5
Oleh
آية الله السيد محمد باقر الصدر قدس سره